حسان الحديثي
كان بشّار بن برد شاعراً فحلاً ذكياً عالماً بالشعر عارفاً بمسالكه وشعابه يعلم من اي مأمنٍ يُؤتى ومن اية كتفٍ يؤكل، وقد أوسع الشعر -على الرغم من عماه- خبرةً ودرايةً وليس من غرض في الشعر الا أجاد فيه وترك علامةً تدل عليه وشاخصاً يشير اليه، وكان بينه وبين حمّاد عجرد تهاجٍ وتقاذعٌ ، وشواهده كثيرة منها حين هجاه فقال:
نِعــم الفتى لو كـان يعبــد ربّّـــه ... ويُقيــمُ وقتَ صلاتِـه حمّـادُ
وابيّضّ من شربِ المُدامةِ وجهُه ... وبياضُه يومَ الحسابِ سوادُ
وحمّاد هذا -وإن كان شاعراً مُجيداً في الغزل والوصف- الا انه معروف بفظاظته وهجائه ومعروف أيضاً بذكائه ووفرة حيلته في الشعر وهو القائل في رده على بشّار هاجياً:
ألا مـــن مبلـغ عنــي ... الذي والـدُه بُـــردُ
إذا ما نُســبَ النـاسُ ... فـلا قبـلُ ولا بعـدُ
ويـا أقبـحَ من قـردٍ ... إذا ما عـَمـي القـردُ
دنيء لم يرُحُ يوماً ... إلى مجــدٍ ولم يغدُ
وقد ذكر عماه بأبشع صورة واكثرها ايلاماً وتجريحاً بقوله:
وَيَا أقبحَ من قردٍ ... اذا ما عَميَ القردُ
فلم يُشبّهْهُ بالقرد وحسب بل جعله اقبح من قرد أعمى ولا يخفى اثر هذا المعنى في نفس بشّار ، فقيل انه جزع لذلك جزعاً شديداً حتى بكى من وقع البيت وشدته عليه ثم قَالَ معللاً جزعَه وبكاءه: يرانى فيصفنى وَلَا أرَاهُ فأصفه.
وقد يبدو تعليله هذا معقولاً ومسوّغاً ومقنعاً ايضاً، ورب قائل يقول وأنا منهم: وهل كان ابن برد يحتاج البصرَ كي يردَّ على حمّاد؟ وهو شاعر لسانُه المِبردُ وحروفه شواظُّ الجمر وطَرفُه نابُ الافعى لا يعجزه وصف ولا تشبيه، يلتقط المعاني من مجاهيلها التقاطاً ويقتطف الصور من اعالي سدرة خياله اقتطافاً فيعجز من سواه ويبزّ اقرانه من الشعراء.
اليس هو القائل بتشبيه ساحة الحرب:
كأنَّ مُثارَ النقعِ فوقَ رؤسِنا ... وأسيافَنَا، ليلٌ تهاوى كواكبُهُ
وهو القائل ايضا في وصف الهمّ:
وكأنّ الهَمّ شَخْصٌ مَاثِلٌ ... كلَّما أبْصَرهُ النَّوْمُ نَفَرْ
اي كأن الهمّ سوادة لشخص في ظلمة ينفر منه النوم خوفاً ورعباً وهو تشبيه فريد، ولا ننسَ ان القائل اعمى، فهل هذا قول من يحتاج البصر ليتم الوصف او يرسم حدود المعاني؟ واي مبصر سواه استطاع تشبيه النقع بالليل والسيوف بالكواكب؟
لقد كانت بصيرة بشار أسبق وأسبر من بصر المبصرين، لكنني احسب ان ثقل هجاء حماد عليه وشدة قبح وصفه اعجزت بشاراً واسكتت لسانه فابلس لا يملك جوابا غير ان يحتمي بادعاء العجز والعمى الذي ماز صاحبه عليه
وأزعم ان بيت حماد -ان لم يكن اهجى بيت قالته العرب- فهو أهجى بيت قيل في أعمى وبه انتصر حمّاد على بشار وهي ليست المرة الأولى ولا الاخيرة بينهما ، فقد انتصر حمّاد على بشار في التهاجي في أكثر من موضع، ومنها ان بشاراً سأل راويتَه يوماً -وكانا في مجلس- أن يُنشده ما قال حمّادُ فيه من هجاء، فانشده الراويةُ::
دُعيتَ إلى بُرْدٍ وأنتَ لغيرهِ ... وهبْكَ ابن بُردٍ (فعلتُ بأمَّكَ) من بُرْدُ؟
(وقد غيرت المفردة الأصل لانها نابية الى "فعلتُ" تادباً مع السادة القراء لان حذفها يُفقد المنشورَ جزءاً من معناه)
ولأن بشار أعمى لا يدري مَن يجلس حوله -ولا يريد ان يُسمع رأيه احداً من الكارهين المتربصين- سأل راويتَه: أها هنا أحد؛في المجلس؟
فقال الراوية: لا
فقال بشار: لقد أحسن والله ابن الزانية لقد تبيّن له عليَّ في بيت واحد خمسة معان في الهجاء:
وهنا تتبين رؤية بشار النقدية في بيت هجاء هو الهدف منه، فيشير الى معاني البيت ويعددها في تصنيف البيت وتفصيله فيقول:
- دُعيتَ إلى بُردٍ: فيجعله دعيّاً مجهول النسب، وهذا المعنى الأول
- وأنت لغيرِه: فينسبه لغير ابيه، وهذا المعنى الثاني
- وهبك لبردٍ: ثم يستخف بابيه وهذا المعنى الثالث
- "فعلت" بأمك: وفيه شتم وهذا ديدن اهل الهجاء وقد سبقه اليه جرير والفرزدق وشعراء الجاهلية وهذا المعنى الرابع
- مَن بُرد؟: ثم ختمها باستفهام يفيد التحقير .. وهو المعنى الخامس.
وهنا نرى ابن برد ناقداً رائياً قد فطِن الى مواطن القوة في البيت فابداها بعلم واشار اليها بدراية ، واعترف -ولو من وراء ستار- ان خصمه تفوق عليه في القول.
لكن درب الرذيلة يودي الى التهلكة فلم يتعظ حمّاد ولا بشار وبقيا على تلك الحال يسلكان دروب الرذيلة في الشعر بقولِ ما لا يصح قوله وفضح الناس وإشهار ما لا يجوز اشهاره فيسقطان من قعرٍ قبيحٍ الى الاقبح حتى اوغلا مجوناً وفسقاً وبهتاناً فاتُّهِما بالزندقة وقتلا شر قتلة؛ فقضى بشار على يد الخليفة المهدي متهما بالزنرقة والكفر ، وهكذا قضى حماد حين اغتيل في نواحي الاحواز بذات الجريرة.
فهذا هو الشعر للجاهلين بحاله وثمن مآله يعزُّ ويرفعُ اقواماً ويحطُّ آخرين وكل امرئٍ له ناصية وناصيةُ الشاعر لسانه.....
.
لاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر الفيس بوك لمتابعة كل جديد .
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر كوكل بلس لمتابعة كل جديد
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر تويتر لمتابعة كل جديد .
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر اليوتيوب لمتابعة كل جديد .
تابع