د. قيس النوري
كثر الحديث مؤخرا عما أسموه صفقة القرن المرتبطة إجرائيا بمنطقة المشرق العربي والتي يطلقون عليها تسمية مضللة (الشرق الأوسط)، ما هي المنطلقات الأساسية لهذه الصفقة، وهل هي من جديدات الفكر الغربي الرأسمالي، أم هي امتداد وصفحة مستحدثة من صفحات استهداف الامة.
ابتداء نشير إلى ان مصطلح (الشرق الأوسط) وما يترتب عليه من تفريعات به حاجة الى وقفة لتحديد أبعاده السياسية والجغرافية ، هذا المصطلح ارتبط بمشاريع ورؤى أجنبية، غربية تحديدا، بالأضافة إلى أنه ضم في جغرافيته توليفة بشرية ـ جغرافية غير متجانسة تتجاوز الوطن القومي العربي، ثم أنه فصل وفقا لحدوده الجغرافية المطروحة (برغم اختلافها) بين عرب المشرق وعرب المغرب، فاللمصطلح والإطار الجيوسياسي تعبير ينطوي على إنكار عبثي لحقيقة أن العرب كتلة بشرية ذات هوية وثقافة وتاريخ وتطلعات ومصالح ويواجهون تحديات مشتركة، فهو (المصطلح)، أذن، يعيد تفصيل الوطن العربي جغرافيا بفصل الجزء الأفريقي العربي عن الإطار الجغرافي المتداول لمنطقة المشرق، لكنه يتوسع ويضيف إلى الجزء الآسيوي منه كلاً من إسرائيل وتركيا وأفغانستان وباكستان وإيران وبعض من جمهوريات أسيا الوسطى، وبذلك يكون (الشرق الأوسط) أحد وسائل تمزيق الوحدة المكانية والقومية العربية، ويغلب المفهوم الجغرافي للاقتصاد والأمن على المفهوم القومي، وبهذا النحو تكتسب دول غير عربية مثل تركيا وإيران وإسرائيل أهمية أكبر فيما يتعلق بالنفط من الكثير من الدول العربية .
الجديد في المشروع، كما طرحته الولايات المتحدة الأميركية على مجموعة الدول الصناعية الثمان، أنه يبرز في استهلال مخيف الحالة المتردية لدول المنطقة ومن ثم فأن الارتقاء والنماء الاقتصادي طبقا للمشروع لا يتحقق إلا من خلال تشجيع التعددية والنظم البرلمانية، وإحياء أدوار مؤسسات المجتمع المدني (أغلبها ممول من الخارج) وكذلك الأحزاب، وهي في المجمل مطالب لا يمكن لأي مواطن في المنطقة الاعتراض عليها أو التقاطع معها، كونها بالفعل تشكل المداخل الصحيحة لانتشال هذه الدول من الحالة البائسة والكارثية التي وصلت إليها، وهي حالة فاقت في التردي عما هو الحال في دول أفريقية تفتقر إلى الموارد الأساسية، لكن السؤال المهم: هل أن طرح هذا المشروع (الصفقة) يمثل في حقيقته دعوة للتغيير، أم هو أداة لإعادة رسم المنطقة سياسيا واقتصاديا (تصريحات أميركية تزامنت مع الحرب على العراق) وبما يتلاءم والمشاريع الغربية المتشابهة ويسعى لتصفية القضية الفلسطينية، كذلك هل المشروع جديد بالفعل وأنه جاء نتيجة تفكير أميركي لمعالجة أوضاع المنطقة، أم ان جذوره أبعد وأعمق من هذا بكثير؟
ما ترشح حتى الان عن بعض تفصيلات هذا المشروع (الصفقة) بعناصره الأمنية والجغرافية والاقتصادية والسياسية، انما هو قراءة جديدة لذات المشروع القديم مذ ما طرح وعرف بـ(المسألة الشرقية) وتحديدا منذ سنوات 1774 ـ 1778 وفقا لـ(كارول براون) في كتابه السياسة الدولية في أطار محاولات الدول الغربية عل تعاقبها للتحكم وضبط المنطقة العربية، إلا أن الصيغة الأميركية الأخيرة تجهد في أظهار الجانب الاقتصادي والأمني لتكون المدخل بالتعامل مع المنطقة التي تعدّها تمثل تحديا بقدر ما تمثل فرص فريدة للمجتمع الدولي (المقصود الغربي تحديد) لأنها تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثماني وأمن إسرائيل كما ورد حرفيا في نص المشروع الأميركي.
ليس سرا أن التعامل مع المخاطر والفرص لمنطقة المشرق العربي خضعت للعديد من الدراسات والبحوث في الغرب بالتركيز على الدعائم الأساسية فيه بخاصة الاقتصاد والامن، بل أن الأمن وترتيباته بفروعه المتعددة مثل طبقا لتلك الدراسات، البيئة الحافظة للجانب الاقتصادي، وفي هذا الاطار برزت جهود دولية واسعة لوضع نظام أو مشروع للمنطقة يرتكز على الأمن أولا ومن ثم الاقتصاد تحت إشراف وقيادة أميركية، من بين هذه الدراسات على سبيل المثال ما جاء في تقرير معهد السياسة الخارجية التابع لجامعة (جون هوبكنز) الأميركية عام 1991، أيضا يتوافق مع هذه الوثائق التصور الذي قدمه (شيمون بيريز) في كتابه (ماذا بعد عاصفة الصحراء.. رؤية مستقبلية للشرق الأوسط) وكذلك دراسة (شاه رام شوين) في مجلة سرفايل/ شتاء 1991 وغيرها من الدراسات بهذا الصدد.
لوضع المشروع (الصفقة) موضع التطبيق والانتقال به الى الإجرائية تطلب الامر إنجاز عمليتين في آن واحد:
أولهما تحقيق التسوية السياسية بين إسرائيل والدول العربية المجاورة لها، ثم تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع بقية الدول العربية.
وثانيهما، تنظيم وعقد المفاوضات متعددة الأطراف كإطار إقليمي ودولي للمنطقة وبإشراف الولايات المتحدة وقيادتها (مؤتمر مدريد 1991) وقطعت هاتين العمليتين شوطا كبير فأنجزت التسوية مع منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الدول العربية ، وأخيرا ضرب العراق وإخراجه من معادلات القوة على صعيد المنطقة، لذلك فإن القراءة المتجزئة للمشروع الأميركي الإسرائيلي بإغفال الجانب الأمني منه تغيب عن عمد أبعاده الحقيقية الرامية الى أسر المنطقة بعد أن عملت، ومنذ عقود، على تجريدها من عناصر القوة وتشجيع السياسات الفاسدة للنظم العربية الحليفة لها، بل وتبني المشروعات الأميركية هذه من قبل دول الفائض المالي العربية .
نعم الدول والمجتمعات العربية بها حاجة إلى مشروع يقوم أولا على الإيفاء بمتطلبات المصلحة العربية حيث لا تنقصهم الموارد البشرية والمادية مما يؤهل العرب لإعاده بناء ما خربته السياسات المتعسفة والانانية سواء الأميركية أم الحليفة لها.
السؤال المطروح مجددا من خلال قراءة مشروع الصفقة يفرض استحقاقه، هل هو تغيير في مسار أم إعادة رسمة جديدة للمنطقة تؤسس لفرص مفتوحة للتدخل عبر تفكيك المفاهيم الجغرافية ـ الثقافية أولا ومن ثم بناء مجتمعات الشبكات الجديدة المؤهلة والمستجيبة للسوق المعلومة؟ نعتقد أن الإجابة واضحة لا تستحق كثيرا من العناء، إنها نتيجة لعقود من التفكير المقرون بالعمل وعلى مدى قرن من الزمان لذلك فهي (صفقة القرن) لتلك المجهودات الاستعمارية.
لاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر الفيس بوك لمتابعة كل جديد .
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر كوكل بلس لمتابعة كل جديد
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر تويتر لمتابعة كل جديد .
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر اليوتيوب لمتابعة كل جديد .
تابع