طارق القيزاني
تفادت عمليات التقصي أيضا عمدا محاولة اغتيال بورقيبة على أيدي أنصار بن يوسف قبل اغتيال الأخير في فرانكفورت، وما كان يحاك ويدبر في القاهرة أين لجأ بن يوسف، في تلك الفترة للدولة التونسية.
محاكمة كما لو أنها دبرت بليل
حديث المقاهي خلال شهر رمضان في تونس لا يخرج عن استحضار الأيام الخوالي وحجتهم في ذلك أن كل شيء قديم يظل جميلا في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والأسعار الملتهبة، لكن هذا العام وجد التونسيون أنفسهم مرغمين على تذكر جراح قديمة لا يحبون استحضارها ولكن يجرون إليها جرا.
فلم تكد تنتهي هيئة الحقيقة والكرامة من عمليات التقصي والنبش في الماضي على مدى أربع سنوات من عملها، بدعوى إرساء عدالة انتقالية اختلف الشركاء في هذا الوطن حول مقاصدها وغاياتها حتى اليوم، حتى بدأ الفصل الثاني من النبش لدى الدوائر القضائية المتخصصة التي عهد إليها الفصل في قضايا الانتهاكات.
يعود النبش من جديد حول خصومة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة باني دولة الاستقلال ورفيق دربه في النضال ثم معارضه الأول صالح بن يوسف، ليستدعي ذلك معه بالضرورة الانقسام التاريخي بين أنصار الرجلين والذي كاد يتسبب في انزلاق دولة الاستقلال الفتية إلى حرب أهلية أشد خطرا على البلاد من الاستعمار نفسه.
وكما لم تستند هيئة الحقيقة في عمليات تقصيها الموجهة حول حادثة اغتيال بن يوسف في منفاه بألمانيا عام 1961 إلى بحث المؤرخين والسياقات التاريخية المرافقة، فإن القضاء بدا أنه يتعامل بالنتيجة اليوم مع جريمة دولة مجردة من كل الأسباب والعوامل. فنحن أمام محاكمة كما لو أنها دبرت بليل.
بداية افتقدت عمليات التقصي عن انتهاكات الماضي إلى الحد الأدنى من الشروط الموضعية، أولها إشراف معارضين لنظام بورقيبة ولدولة الاستقلال على حصر الانتهاكات، وهي خيارات خضعت إلى حسابات انتخابية تحكمت بها قوى سياسية تعد من أشد معارضي بورقيبة وأكثرها تحفظا من تاريخ تونس الحديث ودولة الاستقلال.
خضعت عمليات التقصي إلى حسابات انتخابية تحكمت بها قوى سياسية تعد من أشد معارضي بورقيبة
وإذا كان الهدف الظاهري من المحاكمة هو كشف الحقيقة كاملة فإنه كان من باب أولى وأحرى البحث في أسباب الصمت الرسمي الألماني عن عملية الاغتيال التي وقعت على أراضيها وعدم فتحها لتحقيق أو تعقب الجناة، لكن الهدف غير المعلن من المحاكمة كما سيبدو لأنصار بورقيبة على الأقل والأحزاب التي تدين له بالولاء الفكري والسياسي، هو محاسبة حقبة كاملة من بناء الدولة الوطنية.
يتغافل القضاء ومن أحال ملف القضية أصلا من هيئة الحقيقة، عن حقيقة أن بناء دولة حديثة بمعايير غربية على أنقاض العروشية والمجتمع القبلي المشتت في تلك الفترة، يكاد يكون مجهودا أشد تعقيدا وخطورة على الدولة الناشئة من مواجهة عدو في حرب أو دحر مستعمر. فالشرخ الذي أحدثه النزاع اليوسفي البورقيبي منذ الخلاف على وثيقة الاستقلال عن فرنسا كانت وطأته أشد على الدولة من حرب الجلاء التي وضعت الجيش التونسي الناشئ في مواجهة جيش أعتى قوة استعمارية لإرغام باريس على الانسحاب من آخر جيب تحتله بتونس عام 1962.
تغافلت عمليات التقصي عن حقيقة أن تونس لم تكن قادرة على استيعاب مشروعين متضاربين بين بن صالح وبورقيبة في السنوات الأخيرة التي سبقت الاستقلال، لا بشأن منهجية الاستقلال ولا أيضا بما يتعلق بالانتماء الإقليمي العربي المنقسم بين الشرق العروبي والقومي الذي تقوده القاهرة في مقابل الانفتاح على الغرب الذي تنادي به تونس. وهو خلاف جعل المتخاصمين في سباق محموم لانقضاض أحدهما على الآخر.
تفادت عمليات التقصي أيضا عمدا محاولة اغتيال بورقيبة على أيدي أنصار بن يوسف قبل اغتيال الأخير في فرانكفورت، وما كان يحاك ويدبر في القاهرة أين لجأ بن يوسف، في تلك الفترة للدولة التونسية. بل أن هيئة الحقيقة تصنف ضمنيا محاولة الانقلاب الفاشلة ضد حكم بورقيبة عام 1962 كمعارضة مشروعة وتنظر إلى المورطين الذين عوقبوا بأحكام الإعدام كضحايا.
في مطلق الأحوال فإن المحاكمة تفقد سبب وجودها ليس لأنها تقدم حقائق تاريخية مجزئة وموجهة، ولكن لأن بن يوسف جرى رد الاعتبار له ولعائلته في العام 1988 إبان صعود الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى الحكم، بأن جلبت رفاته لتدفن في مربع الشهداء مع باقي الشخصيات الوطنية كما رفع الحظر الإعلامي والثقافي عنه.
يثبت هذا مرة أخرى أن الهدف من الخوض المستمر في صراع الإخوة الأعداء داخل الحزب الدستوري الحر والدفع بهم إلى محاكمات رمزية، هو بورقيبة نفسه، وهو هدف شرع لأشد معارضي وأعداء الدستوريين اليوم للاستثمار في شخص صالح بن يوسف إلى الحد الأقصى، قبل أشهر قليلة من موسم انتخابي ينبئ بتغير كبير للمشهد السياسي ولعمليات فرز جذرية.
لاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر الفيس بوك لمتابعة كل جديد .
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر كوكل بلس لمتابعة كل جديد
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر تويتر لمتابعة كل جديد .
تابعلاتنسى الاعجاب بصفحتنا عبر اليوتيوب لمتابعة كل جديد .
تابع